فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله} ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. اهـ.

.قال القرطبي:

لما تقدّم إلى الولاة في الآية المتقدّمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدّم في هذه الآية إلى الرعيّة فأمر بطاعته جل وعز أوّلا، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.
قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة، وقال أصحابنا: الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الارادة.
لنا: أنه لا نزاع في أن موافقة الأمر طاعة، إنما النزاع أن المأمور به هل يجب أن يكون مرادًا أم لا؟ فإذا دللنا على أن المأمور به قد لا يكون مرادًا ثبت حيئنذ أن الطاعة ليست عبارة عن موافقة الإرادة، وإنما قلنا إن الله قد يأمر بما لا يريد لأن علم الله وخبره قد تعلقا بأن الإيمان لا يوجد من أبي لهب ألبتة، وهذا العلم وهذا الخبر يمتنع زوالهما وانقلابهما جهلا، ووجود الإيمان مضاد ومناف لهذا العلم ولهذا الخبر، والجمع بين الضدين محال، فكان صدور الإيمان من أبي لهب محالا.
والله تعالى عالم بكل هذه الأحوال فيكون عالما بكونه محالا، والعالم بكون الشيء محالا لا يكون مريدًا له، فثبت أنه تعالى غير مريد للإيمان من أبي لهب وقد أمره بالإيمان فثبت أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن طاعة الله عبارة عن موافقة أمره لا عن موافقة إرادته، وأما المعتزلة فقد احتجوا على أن الطاعة اسم لموافقة الإرادة بقول الشاعر:
رب من أنضجت غيظا صدره ** قد تمنى لي موتًا لم يطع

رتب الطاعة على التمني وهو من جنس الارادة.
والجواب: أن العاقل عالم بأن الدليل القاطع الذي ذكرناه لا يليق معارضته بمثل هذه الحجة الركيكة. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه، وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب.
أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}.
فإن قيل: أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله، فما معنى هذا العطف؟
قلنا: قال القاضي: الفائدة في ذلك بيان الدلالتين، فالكتاب يدل على أمر الله، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة، والسنة تدل على أمر الرسول، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة، فثبت بما ذكرنا أن قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة. اهـ.

.قال القرطبي:

قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد.
قال سهل: وإذا نهى السلطان العالِمَ أن يُفتي فَليس له أن يفتَى؛ فإن أفتى فهو عاصٍ وإن كان أميرا جائرا.
وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية؛ ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غَزَوْا، والحُكْمُ من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة.
وإن صلّوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مُبتدِعة لم تجز الصلاة معهم إلاّ أن يُخافوا فيصلّى معهم تَقيّة وتعاد الصلاة.
قلت: رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حقٌ على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدّي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته.
وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: {وَأُوْلِي الأمر} أهل القرآن والعلم؛ وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوُه قولُ الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين.
وحكي عن مُجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصّة.
وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصّة.
وروى سفيان بن عُيينة عن الحكم بن أَبَان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال: هن حرائر.
فقلت بأي شيء؟ قال بالقرآن.
قلت: بأي شيء في القرآن؟ قال قال الله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} وكان عمر من أولي الأمر؛ قال: عَتقت ولو بسقْط.
وسيأتي هذا المعنى مُبَيَّنًا في سورة [الحَشْر] عند قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] وقال ابن كَيْسان: هم أولو العقل والرأي الذين يدبّرون أمر الناس.
قلت: وأصح هذه الأقوال الأوّلُ والثاني؛ أما الأوّل فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم.
وروى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عَدِي السَّهْمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سَرِيّة.
قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دُعابةٌ معروفة؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّره على سَرِيّة فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا فلما أوقدوها أمرهم بالتقحُّم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟! وقال: «من أطاع أميري فقد أطاعني» فقالوا: ما آمَّنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار! فصوّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» قال الله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهو حديث صحيح الإسناد مشهور.
وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم ابن ثَوْبان أن أبا سعيد الخُدْرِي قال: كان عبد الله بن حذافة بن قيس السَّهْمِي من أصحاب بَدْر وكانت فيه دُعابة وذكر الزبير قال: حدّثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب عن الّليث بن سعد قال: بلغني أنه حلّ حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع.
قال ابن وهب: فقلت لليث ليُضْحِكه؟ قال: نعم كانت فيه دُعابة.
قال ميمون بن مَهران ومقاتل والكلبي: {أُولُو الأَمْرِ} أصحاب السّرايا.
وأما القول الثاني فيدّل على صحته قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول}.
فأمر تعالى بردّ المتنازَع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الردّ إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما.
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظّموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسَد دنياهم وأخراهم.
وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول الرابع.
وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحًا، فإن العقل لكل فضيلة أُسّ، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدّين أصلا وللدنيا عمادًا، فأوجب الله التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدَبَّرة بأحكامه؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل.
وروي هذا المعنى عن ابن عباس.
وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر عليّ والأئمة المعصومون.
ولو كان كذلك ما كان لقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} معنىً، بل كان يقول فردّوه إلى الإمام وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة.
وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور.
وحقيقة الطاعة امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدّها وهي مخالفة الأمر.
والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتدّ.
و{أولو} واحدهم ذو على غير قياس كالنساء والإبل والخيل، كلّ واحد اسمُ الجمع ولا واحد له من لفظه. وقد قيل في واحد الخيل: خائل وقد تقدّم. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله} لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة، تقدم في هذه إلى الرعية، فأمر بطاعته عز وجل، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله، وطاعة الأمراء على قول الجمهور: أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر، وعن عبد الله ومجاهد وجماعة: أولو الأمر: أهل القرآن والعلم، فالأمرعلى هذا التأويل أشار إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: الإشارة هنا بـ {أولي الأمر} إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة، وفي هذا التخصيص بعد، وحكى بعض من قال: إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر، وأميرها خالد بن الوليد، فقصدوا قومًا من العرب، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل.
وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد، فدخل إلى عمار فقال: يا أبا اليقظان، إن قومي قد فروا، وإني قد أسلمت، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت، وإلا فررت، فقال له عمار: هو ينفعك، فأقم، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخده وأخذ ماله، فجاء عمار فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية عل أمير، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد لا تسب عمارًا، فإنه من سب عمارًا سبه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله، ومن لعن عمارًا لعنه الله» فغضب عمار، فقام فذهب، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا، فأنزل الله عز وجل قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. اهـ.

.قال ابن حجر:

وَالنُّكْتَة فِي إِعَادَة الْعَامِل فِي الرَّسُول دُونَ أُولِي الْأَمْر مَعَ أَنَّ الْمُطَاع فِي الْحَقِيقَة هُوَ اللَّه تَعَالَى كَوْن الَّذِي يُعْرَف بِهِ مَا يَقَع بِهِ التَّكْلِيف هُمَا الْقُرْآن وَالسُّنَّة، فَكَأَنَّ التَّقْدِير أَطِيعُوا اللَّه فِيمَا نَصَّ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآن، وَأَطِيعُوا الرَّسُول فِيمَا بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ الْقُرْآن وَمَا يَنُصّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ السُّنَّة. أَوْ الْمَعْنَى أَطِيعُوا اللَّه فِيمَا يَأْمُركُمْ بِهِ مِنْ الْوَحْي الْمُتَعَبَّد بِتِلَاوَتِهِ، وَأَطِيعُوا الرَّسُول فِيمَا يَأْمُركُمْ بِهِ مِنْ الْوَحْي الَّذِي لَيْسَ بِقُرْآنٍ. وَمِنْ بَدِيع الْجَوَاب قَوْل بَعْض التَّابِعِينَ لِبَعْضِ الْأُمَرَاء مِنْ بَنِي أُمَيَّة لَمَّا قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّه أَمَرَكُمْ أَنْ تُطِيعُونَا فِي قوله: {وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ} فَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نُزِعَتْ عَنْكُمْ- يَعْنِي الطَّاعَة- إِذَا خَالَفْتُمْ الْحَقّ بِقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} قَالَ الطِّيبِيُّ: أَعَادَ الْفِعْل فِي قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُول} إِشَارَة إِلَى اِسْتِقْلَال الرَّسُول بِالطَّاعَةِ؛ وَلَمْ يُعِدْهُ فِي أُولِي الْأَمْر إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ يُوجَد فِيهِمْ مَنْ لَا تَجِب طَاعَته. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء} كَأَنَّهُ قِيلَ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلُوا بِالْحَقِّ فَلَا تُطِيعُوهُمْ وَرُدُّوا مَا تَخَالَفْتُمْ فِيهِ إِلَى حُكْم اللَّه وَرَسُوله. اهـ.